[تنشر هذه المادة ضمن ملف خاص حول التناول السردي للحرب والعنف في سوريا. للإطلاع على جميع مواد الملف اضغط/ي هنا]
الروائي السوري نبيل سليمان
منذ خمس سنوات يعصف بنا هذا الخراب العميم، بل هو يعصف منذ قامت قيامة سلطة (البعث) قبل خمسين سنة، بل هو يعصف منذ لا يحصى من عصور الخلافة والعماء. ومهما يكن من عمر ومن أمر هذا الخراب، فالكتابة، أجل، هي طوق للنجاة، ولكن، وبالضبط، كما هي طوق للتهلكة، فإذا ما اجتمعت: التهلكة والنجاة، فبأي آلائهما تكذبان؟
اطو دفترك، كتابك، لوح الكومبيوتر أو الآيباد، في مواجهة هذا الخراب العميم لديارك ولروحك ولجسدك وللعالم، فلا وزن للكتابة في اللحظة الراهنة، حيث الوزن، كل الوزن، للّحى السارحة، والرايات السوداء والصفراء الخفاقة، والبراميل المتفجرة، وعباقرة الفضائيات والمفاوضات، وطوفان اللجوء والنزوح، والنفاق الثوري، والنعماء الثورية، والبذلة المرقعة والبوط والطائفية و...
ولكن إياك أن تصدق، فالوزن، كل الوزن، للكتابة الآن وهنا، فقط إن هي اغتسلت من دبق الساسة والمثقفين والكتّاب والقراء الوالغين في الماضي وفي الدم، أسرى الجهالة والعنتريات والأعطيات والحداثة وما بعدها والقدامة وما قبلها.
لهذه الكتابة المضادة التي تحاول أنت وهي وهو وهم وهنّ أن تجترحوها، لغتها التي مثل عاشقة تفكّ أزرارها - من القائل؟ - فلا يهم أن يحتشد في نصك – قصيدتك، روايتك، بحثك، مقالتك.. – الرصاص أو البيان الثوري أو من محكم التنزيل، لأن المهم والأهم هو: الشغف كما هي النقدية، وهو النظيف البهيّ الحالم كما هي النقدية، فالنقدية، أولًا وآخرًا، هي علامة الكتابة التي تعيشها/ تكتبها في زمن الموت/ المحو.
أما الحديث عن بناء الكاتب لعمارة روائية بينما الطغاة يدمرون، فهو كالحديث عن أن الأدب الجيد لا يكتب في أتون الحروب.
من الصحيح حقًا أن جلّ ما يكتب في أتون الحروب هو إلى الهلاك، لكن التاريخ يعلمنا أن إبداعات كبرى قد تشهدها الحروب، كما يشهدها زمن الطغيان والديكتاتورية. والقول بالحاجة إلى (التخمّر) أو بالحاجة إلى الحرية والديمقراطية، كيما تظهر الإبداعات الكبرى، ليس منزلًا تنزيلًا، وإلا فما هو هذا الذي رسمه أو كتبه سلفادور دالي في الحرب العالمية الثانية؟ وما هذا الذي رسمه بيكاسو أو كتبه لوركا أثناء الحرب الإسبانية؟ وفي ظل الديكتاتورية ما هذا الذي كتبه سعد الله ونوس أو هاني الراهب أو إلياس مرقص أو بو علي ياسين أو زكريا تامر أو محمد الماغوط أو صادق جلال العظم أو فواز حداد أو سمر يزبك أو...؟ وفي حمأة الحرب اللبنانية، طوال خمسة عشر عامًا، ما الذي كتبه أنسي الحاج أو إلياس خوري أو هدى بركات أو يمنى العيد أو...؟ وفي العشرية السوداء التي ودعت الجزائر بها القرن العشرين ما الذي كتبه واسيني الأعرج أو الطاهر وطّار أو بشير المفتي أو أمين الزاوي أو...؟
أجل، يمكن للكتابة أن تشيد عمارات روائية بينما الطغاة من كل لون يدمرون، وها هي الرواية في سورية تؤكد ذلك خلال سنوات العصف المعدودة الهائلة مما نعيش. وبالطبع، تحفّ المزالق بهذه الكتابة، كما بأصنائها في الفن التشكيلي أو السينما أو الأغنية أو الأبحاث... وما أكثر ما وقعت وستقع فيها، بقدر ما يطغى السياسي على الفني، تمامًا كما في زمن الديكتاتورية أو الخلافة أو السلم، وبقدر ما تطغى على الكتابة أو على الفن الثأرية أو الشعارية والهتاف أو النكوص إلى الطائفية والجهوية والمذهبية والإثنية والحزبية... وعبر ذلك، قد يرابط في رأس الكاتب رقيب جديد يدعي أنه (الرقيب الثوري) كما رابط ويرابط في الرأس عينه الرقيب القديم المتجدد: الرقيب السياسي في السلطة أو الحزب، والرقيب الاجتماعي الديني. وبالتالي، ليس للحدث الثوري بالضرورة أن يُخرِج الشرطي من رأس الكاتب. ولئن فعل، فقد يبدله برقيب جديد لا يقل عن سلفه ضراوةً ومكرًا وسرطنةً. ولمزيد من التفصيل والتدقيق ومن تعيين القول في روايات محددة وفي حالات محددة، أقترح على من يرغب/ ترغب العودة إلى مساهمتي في مؤتمر الرواية العربية الذي انعقد في القاهرة في آذار/ مارس 2015، حيث درست فعل الزلزال السوري في أكثر من عشرين رواية، وقد تابعت الدرس بعد ذلك في روايات أخرى في الدوريات، فالمدونة الروائية السورية المتعلقة بزلزال 2011-2016 لا تفتأ تكبر، وقد ساهمتُ فيها برواية ("جداريات الشام – نمنوما"، 2014) وبرواية ("ليل العالم"، 2016)، ومنعت الرقابة توزيع الروايتين في سورية.
ويتصل بذلك بقوة ما قدمته تحت عنوان (الفسيفساء الثقافية المجتمعية السورية 2011 – 2016) وذلك في مؤتمر (تجديد الخطاب الثقافي، القاهرة، آيار/ ماي 2016) حيث أعملت السؤال عما فعلت السنوات الخمس الماضية بالثقافة وبالمثقفين في سورية -، ومن ذلك للرواية نصيب، كما للشعر أو للأغنية أو للمقالة أو للأبحاث أو للدراما...
ولعل هذا المقام أن يكون سانحة لأجدد النداء بالاختلاف في الرواية والكتابة والسياسة والعشق، كيلا نكون نسخًا عن بعضنا كما تريد الديكتاتورية، بأي جلباب – قومي علماني أو دينيّ - تجلببت، ومع التشديد على أن يكون الاختلاف المخصب، وليس الاختلاف المدمّر الناشب دومًا، وأقوى فأقوى، في ممارستنا للكتابة أو السياسة أو... العشق أيضًا.
*************
نبيل سليمان في سطور:
ولد الكاتب والروائي والناقد والناشر السوري نبيل سليمان في "برج صافيتا" في الساحل السوري عام 1945، وتلقّى تعليمه في اللاذقية، وتخرج من جامعة دمشق (كلية الآداب - قسم اللغة العربية) عام 1967، ليعمل بعدها في التدريس بين عامي 1963 و1979.
أسس "دار الحوار للنشر والتوزيع" عام 1982 في اللاذقية، وتفرغ للكتابة منذ العام 1989، فكتب الكثير من القصص والروايات والدراسات الأدبيّة والنقديّة، وشارك في عدد كبير من الندوات والمهرجانات الثقافية العربية، وقدّم فيها مداخلات نقديّة وشهادات.
كان "سليمان" قد بدأ الكتابة روائيًّا قبل أن يتّجه إلى النّقد. خيار الكتابة أو "خيار الحياة"، اتّضح جدّيًا لديه منذ العام 1969، حين كتب رواية "ينداح الطّوفان" التي نُشرت بعد عام من كتابتها، ولم تتحدّث الرّواية عن الهزيمة أو الحرب. وإنما اكتفى بالإشارة إلى الهزيمة، في كلمة الإهداء: (إلى 5 حزيران عرفانًا بالجميل).
ثم أتبعها بروابة "هزائم مبكّرة" (1985)، التي يروي فيها مسلسل الهزائم الذي لا يغفل عن بطولات هنا وهناك ويقاربها روائيًا "اقترانًا بهزائم على المستوى الشخصي الرّوحي".
والمعروف عن نبيل سليمان أنه الكاتب الذي يقول الحقيقة ويمضي. رواياته تحمل الهم القومي، وتعنى بأحداث التاريخ العربي الحديث، يتبع في كتاباته مزيجًا نقديًا معرفيًا جديدًا تُعبر عن رؤى الأديب الفكرية والإنسانية والقومية.
غطّى "سليمان" بإنتاجه الرّوائي قرابة ثلاثة أرباع القرن العشرين، وأهم ما يميزه –بحسب النقاد- تقانة السرد العالية والشجاعة في معالجة الجانب الخفي من تاريخ المكان أي الجانب غير الرسمي من تاريخنا الحديث، ويتخذ من شخصيات رواياته أداة لنبش التاريخ الخفي للأفراد والجماعات. يقول الناقد السوري مفيد نجم: "عملًا بعد آخر ظلت التجربة الروائيّة عند نبيل سليمان معنية بسؤال الواقع وتحولاته سياسيًا وإجتماعيًا من جهة، ومن جهة أخرى بسؤال السردي والفني في الكتابة الروائية، وما بين السؤالين كان البحث والتجريب في اللغة السردية ومعها".
ويعتبر صاحب "أطياف العرش" أن روايته "مدارات الشّرق" (ألفين وأربعمئة صفحة في أربعة أجزاء)، هي مشروع عمره. يقول: "صرت أصدّق أنّ في حياة كلّ كاتب مشروع العمر الذي يُكتَب مرّة واحدة ولا يتكرر".
وخلال سنوات الجمر الخمس الماضية وأمام هول ما يجري في بلاده، واصل "سليمان" الكتابة عن الراهن، فكان الراوي/ الشاهد، الذي قرر البقاء في أرض الوطن، دون خوف من أن يُقتل أو يُخطف أو أو يُعتقل أو ينعطب في أية لحظة من لحظات الجحيم السوري، هو الذي تعرض لأكثر من حادث اعتداء في سوريا منذ العام 1970 بعد صدور روايته "ينداح الطوفان"، وكانت رواية "سمر الليالي" في 2000 هي سبب الاعتداء الثاني في أوائل شباط/ فبراير 2001، جزاء على تعريتها لأجهزة وأساليب القمع التي تعرضت لها بخاصة ثلة من الشابات السياسيات.
أما الاعتداء الثالث على منزله الريفي، حيث مكتبته ومكان إقامته منذ ربع قرن، فقد جاء بعد مشاركته في أول مؤتمر علني في سورية في 26 حزيران/ يونيو 2011 (بعد 3 شهور من انطلاق الثورة السورية)، والشهير بـ"مؤتمر سميراميس"، وكذلك بعد مساهمته الكتابية في تلك الفترة المبكرة من الحراك السلمي الشعبي. وعن تلك الأيام الأولى وما آلت إليه أحوالنا، يقول صاحب "ليل العالم": "في الشهور الأولى من السنة الأولى بعد 15 آذار/ مارس 2011 كنت ذلك السوري الذي يخرج من عنق الرحم، بعدما كاد المخاض أن يقضي عليه. كنت، ككاتب وكمواطن، أردد قولة ناظم حكمت: أشهد أني قد عشت، فهذه سورية تخرج أخيرًا من القمقم الذي طال حبسها فيه واستحكم، حتى كاد الخروج أن يكون مستحيلًا. وكانت السلمية بالنسبة لي ولكثيرين غيري هي عنوان الخروج السوري الأكبر. لكن الدماء أغرقت سورية كما ترى اليوم، والدمار يكاد يأتي عليها، وليت العالم يتفرج فقط. العالم يا عزيزي والغ في الدم السوري حتى قمة رأسه. وما من بصيص ضوء، فهل كادت سيرتي أن تنتهي؟".
وفي روايته "ليل العالم" (2016) يستأنف "سليمان" مشروعه الذي بدأه في "مدائن الأرجوان" (2013)، والتي صور فيها سوريا الثمانينيات على إيقاع الصراع بين نظام الأسد الأب وجماعة الأخوان المسلمين، وتواصل مشروعه مع "جداريات الشام - نمنوما" (2014)، التي واكبت هبة ربيع دمشق وأحلامه والتباساته إلى آخر أيام العام 2011. وقد منعت السلطات في دمشق توزيع الروايتين ("ليل العالم" و"جداريات الشام - نمنوما") في سوريا، لما تقدمانه من لوحة بانورامية لما يحدث في وطنه منذ خمس سنوات ونيف، ولما فيها من جرأة وتعرية للنظام البعثي الحاكم.
صدر له أكثر من رواية من الروايات، نذكر منها:
- "جرماتي"، أو (ملف البلاد التي سوف تعيش بعد الحرب)، دار الثقافة الجديدة، القاهرة 1977.
- "ينداح الطّوفان"، دار الأجيال، طبعة أولى: دمشق 1977، وط 2: دار الحوار، اللاذقية 1983.
- "المسلّة"، طبعة أولى: بيروت 1980، ط2: القاهرة، 1997.
- "مدارات الشرق - الأشرعة"، طبعة أولى: دار الحوار، اللاذقية 1990.
- "مدارات الشرق - بنات نعش"، طبعة أولى: دار الحوار، اللاذقية 1990.
- "مدارات الشرق - التيجان"، طبعة أولى: دار الحوار، اللاذقية 1993.
- "مدارات الشرق - الشقائق"، طبعة أولى: دار الحوار، اللاذقية 1993.
- "أطياف العرش"، طبعة أولى: دار شرقيّات، القاهرة 1995، ط2: دار الحوار، اللاذقية 2000.
- "مجاز العشق"، دار الحوار، اللاذقية 1998.
- "سمر الليالي" دار الحوار، اللاذقية 2000.
- "حجر السرائر"، دار الصدى للصحافة والنشر والتوزيع، صدر مع مجلة "دبي الثقافية"، العدد (65)، عدد شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2010.
- "مدائن الأرجوان"، دار الصدى للصحافة والنشر والتوزيع، صدر مع مجلة "دبي الثقافية"، العدد (94)، عدد شهر آذار/ مارس 2013.
- "جداريات الشام – نمنوما"، دار الصدى للصحافة والنشر والتوزيع، صدر مع مجلة "دبي الثقافية"، العدد (106)، عدد شهر أيار/ مايو 2014.
- "ليل العالم"، دار الصدى للصحافة والنشر والتوزيع، صدر مع مجلة "دبي الثقافية"، العدد (141)، عدد شهر كانون الثاني/ يناير 2016.
ولنبيل سليمان عدد كبير من الدراسات الأدبيّة والنقديّة، كان آخرها "أخيولات روائية للقمع والطائفية" (2015). كما كُتِبَ حول تجربته الروائيّة عدد من المؤلّفات، أبرزها: "الرواية والتاريخ" لمحمد جمال باروت، و"نحو ملحمة روائية عربية" لمحسن يوسف، و"تشكل المكونات الروائية" لمويفن مصطفى. وقد تُرجمت بعض أعماله إلى اللغات الروسية والإنجليزية والإٍسبانية.